ما هو الإدمان؟ نظرة شاملة على حالة معقدة
الإدمان هو: اضطراب مزمن، ومعقد، يؤثر بعمق على الدماغ، والسلوك، وله انعكاسات عديدة على حياة الفرد، والمجتمع.
لفهم تعقيدات هذه الحالة، والتعامل معها بفاعليّة، يجب تجاوز التفسيرات السطحية وإدراك العوامل المتداخلة التي تسهم في نشأتها، والتعامل معها.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم رؤية شاملة للإدمان، تتضمن أسبابه، وآثاره، وسبل التعافي منه.
هل الإدمان فشل أخلاقي، أو ضعف إرادة؟
من الشائع أن يُنظر للإدمان على أنه ضعف في الإرادة، والعزيمة، أو علامة على قصور أخلاقي، إلّا أن الأبحاث العلمية تُظهر أنَّ الإدمان حالة طبية، تتغيّر فيها وظائف الدماغ، وتعتمد على عوامل عديدة، فهي تُعطّل نظام المكافأة في الدماغ، وتُضعف الاتصال بين الفص الأمامي، المسؤولة عن اتّخاذ القرارات، والتحكم بالدوافع، وبين نظام المكافأة.
للتوضيح: تخيّل أنك تحاول قيادة سيارة بسرعة عالية، مع فرامل شبه معطّلة. حتى لو كنت تنوي التوقف عند إشارة حمراء, فإن الخلل يجعل من الصعب التحكم في المركبة. هذا يشبه تأثير الإدمان على الدماغ, حيث يُضعِف التحكم بالدوافع، ويعزّز القرارات قصيرة المدى، على الرغم من العواقب البعيدة، وتبعاتها السلبيّة على حياة الفرد.
الإدمان حالة معقدة!
الإدمان اضطراب يختل فيه نظام المكافأة في الدماغ، ويتمثّل بالسعي القهري وراء مواد أو سلوكيات معينة، على الرغم من العواقب السلبية، مِمّا يؤثر على جوانب أساسية في حياة الفرد، مثل: الصحة، والعلاقات، والعمل.
ويعود تعقيد الإدمان إلى عدّة عوامل، منها:
– التغيرات الدماغية: تغيرات في المسارات العصبية، والتي تؤثر على نُظم المكافأة والتحفيز، والذاكرة، واتخاذ القرارات.
– العوامل البيئية: مثل: التعرّض المباشر للمواد في بيئة الفرد، ضغط الأقران، والظروف الاجتماعية، والاقتصادية.
– التجارب الشخصية: أحداث الحياة الفردية، الصدمات، وآليات التأقلم لدى الفرد.
– العوامل الاجتماعية: العلاقات الشخصية، ديناميكيات الأسرة، والمجتمع، والأعراف الثقافية.
– عوامل أخرى: مثل: الاستعداد الوراثي، والصحة النفسية لدى الفرد.
كيف يؤثر الإدمان على الدماغ؟
الإدمان يحدث تغييرات جوهرية في الدماغ, خاصة في نظام المكافأة، مِمّا يجعله أكثر استجابة للمادة أو السلوك الإدماني، وأقل استجابة للأنشطة اليومية الممتعة.
اختطاف نظام المكافأة: تزيد المواد، أو السلوكيات الإدمانية من إفراز الدوبامين في الدماغ بشكل مفرط, مما يؤدي إلى تقليل استمتاع الفرد بالأنشطة اليومية العادية.
ضعف التحكم الذاتي: تؤثر المواد على الفص الأمامي، مِمّا يضعف قدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة وتقييم العواقب.
الاشتياق للمادة: ويعرف الاشتياق بأنه: رغبة ملحة بالرجوع للمادة الإدمانية، عند انقضاء تأثير عملها بالجسد. يشكّل الدماغ ارتباطات قوية بين بعض الإشارات وبين المادة الإدمانية.
فعند التعرض لهذه المحفزات تزداد احتمالية الانتكاس، لأن هناك ألماً نفسياً، وأعراضاً جسدية تحدث عند التوقف المفاجئ، فيلجأ الشخص لهذه المواد من أجل تسكين ألمه النفسي.
مثال: قد يشعر الشخص المتعافي من إدمان النيكوتين برغبات شديدة عند شمّ رائحة دخان السجائر، أو حتى صوت الولاعة، حيث يربط الدماغ الرائحة بتأثيرات التدخين الممتعة!
لماذا يدمن الناس؟
ينشأ الإدمان نتيجة تداخل العديد من العوامل:
الجينات: الاستعداد الوراثي يزيد من القابلية للإدمان.
البيئة: التعرض لاستخدام المواد، تأثير الأقران، كما أن الظروف الاجتماعية، والاقتصادية تلعب دورًا.
الصحة النفسية: الاضطرابات المتزامنة، مثل: الاكتئاب، أو القلق قد تسهم في استخدام المواد كآلية تأقلم.
العوامل الاجتماعية: ديناميكيات الأسرة، بيئة المجتمع، والمواقف الثقافية تجاه استخدام المواد.
التطور العقلي: يكون المراهقون عرضة بشكل خاص؛ بسبب عدم اكتمال تطور الدماغ.
الأساس التطوري للإدمان:
من منظور تطوري، تم تهيئة أدمغة البشر للسعي وراء السلوكيات التي تعزز البقاء، وتجنب الألم، وهي آليات عززت البقاء على قيد الحياة تاريخيًا. مثل: الصيد للحصول على الطعام، والسعي للبحث عن التزاوج.
في العصر الحديث، يمكن أن تجعل هذه الاستعدادات الأفراد عُرضة للسلوكيات الإدمانية. يمكن أن تؤدي وفرة المحفزات ذات المكافآت العالية، مثل: الأطعمة المصنعة والمخدرات، والترفيه الرقمي، إلى اختطاف هذه المسارات العصبية القديمة، مما يزيد من احتمالية الإدمان.
الإدمان كتضييق تدريجي لمصادر المتعة:
يصف عالم الأعصاب الدكتور أندرو هوبرمان الإدمان بأنه “تضييق تدريجي للأشياء التي تجلب لك المتعة”. هذا يعني أنه بمرور الوقت، يجد الأفراد المتعة في نطاق أقل من الأنشطة، غالبًا ما تركز على المادة، أو السلوك الإدماني، بينما يفقدون الاهتمام في جوانب أخرى من الحياة. حيث يصبح الحصول على سيجارة أخرى مُقدَّم على ما نجده ممتع بالعادة!
التعافي ممكن!
على الرغم من التحديات المصاحبة لهذا الاضطراب، إلّا إن التعافي ممكن عن طريق تلقّي العلاج المتكامل في المراكز المخصصة للتعافي من الإدمان.
العلاج النفسي: يمكن تطوير استراتيجيات للتأقلم مع هذا الاضطراب، ومعالجة القضايا النفسية الأساسية التي تساهم في نشأته، مثل: العلاج السلوكي المعرفي، وغيرها من الطرق التي تحقق الاستدامة في العلاج.
العلاج الدوائي: يمكن أن تساعد الأدوية في إدارة أعراض الانسحاب، وعلاج الاضطرابات النفسية المصاحبة إن وُجِدَت، وتقليل آثار الاشتياق.
الدعم الاجتماعي: تساهم المجموعات العلاجية المخصصة للإدمان، بخلق مساحة آمنة لمشاركة تجارب المصابين بعضهم مع بعض، والتعلّم من تجارب الآخرين، وتلقّي الدعم، وتقليل شعور الوحدة، والعار، المصاحبين لهذا الاضطراب.
اللدونة العصبية: وهي: قدرة الدماغ على إعادة التنظيم، وتشكيل اتصالات عصبية جديدة تمكّن التعافي، ممّا يسمح للأفراد باستعادة السيطرة، وبناء عادات أكثر صحة. هذه القدرة على التكيف تعني أنه مع التدخّلات، والدعم المناسبين، يمكن للدماغ التغيير استجابةً للتجارب الجديدة.
الرسالة الختامية:
الإدمان ليس فشلًا أخلاقيًّا, بل هو اضطراب مزمن، يتطلّب فهمًا شاملًا، ودعمًا متكاملًا. تعزيز الوعي المجتمعي حول طبيعة الإدمان كمرض، يساعد الأفراد على طلب المساعدة دون خوف من الوصمة. كما أنّ التعافي ممكن من خلال العلاج المناسب، والدعم المستمر، ذلك يتيح للأفراد المصابين فرصة لاستعادة حياتهم، وبناء مستقبل أكثر صحة وإيجابية.